01 - 05 - 2025

نقد أدبي | «حافة الكوثر» وإشكالية النوع الأدبي الذي تنتمي إليه

نقد أدبي | «حافة الكوثر» وإشكالية النوع الأدبي الذي تنتمي إليه

منذ البداية يضعنا المبدع "علي عطا"  في نصه " حافة الكوثر"  الصادرة عن "الدار المصرية اللبنانية"، في إشكالية  حول النوع الذي تنتمي إليه، إلى عالم أدب الاعتراف،  أم عالم الرواية، أم عالم السيرة الذاتية، أم أدب المذكرات واليوميات، أم الروية السيرية، ولكل من هذا الأنواع الأدبية السمات التي تميزه عن الآخر بدرجات متفاوتة، وإن اعتمدت جميعها على السرد، فأدب الاعتراف الذي أرسى قواعده أدبيًا جان جاك رسو "الإنسان في أصدق صوره" مقدما إياه بقوله "إنني مُقْدم على مشروع لم يسبقه مثيل، ولن يكون له نظير، إذ إنني أبغي أن أعرض على أقراني إنساناً في أصدق صور طبيعته.. وهذا الإنسان هو: أنا! أنا وحدي!…". ولأدب الاعتراف سمات خمس كشف عنها الناقد الفرنسي "فليب لوجون" بوصفها "حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك بتركيزه على حياته الفردية، وتاريخ شخصيته بصفة خاصة".

وهناك السيرة الذاتية التي يخلط الكثيرون بينها وبين أدب الاعتراف، فالسيرة الذاتية هي تأريخ لحياة الإنسان، خاصة هؤلاء الذين لهم أدوار مؤثرة في المجتمع ويجد الناس متعة في معرفة بداياتهم ومشوار حياتهم، ويفرق الأديب خيري شلبي بينهما بقوله السيرة هي تأريخ لحياة ومشوار المبدع أو الأديب، ولا يكون مطالباً فيها بالكشف عن حياته الخاصة وتفاصيلها الدقيقة لما في ذلك من صدمة للمجتمع، أما أدب الاعتراف فهو جنس أدبي يقرر من خلاله صاحبه البوح والإفصاح حتى يريح ويستريح.

أما أدب المذاكرات رغم تشابه مع أدب الاعتراف إلا أن هناك فاصل جوهري بينهما هو أن أدب الاعتراف يروي أحداثا شخصية لمدة زمنية طويلة بينما اليوميات تدور أحداثها في فترة زمنية معينة بشكل شامل ومتسع، وأكثر دقة زمنيا لأنها تكون قريبة جدا من الذاكرة.

أما الرواية السيرية وهي أحداث أنواع الأجناس الأدبية تمزج بين الواقعية والمصداقية التي يحتمها أدب السيرة الذاتية والخيال الذي هو أحد دعائم الرواية وامتزاجهما معا ينتج الرواية السيرية، حيث يتيح هذا الأمر للكاتب أن يصوغ حياته بشكل أكثر إثارة، وفي الوقت نفسه لا يخرج عن الواقعية. ويعد الأديب الفرنسي باتريك موديانو الحاصل على نوبل الآداب عام 2014، من أشهر من كتبوا في هذا النطاق خاصة في روايته دفتر العائلة وسلالة، ويعد كتاب الأيام لطه حسين من هذا النوع الأدبي.

 فأين يقع نص "حافة الكوثر" من هذه الأنواع الأدبية، وهو بشكل عام نص يرى أن الكتابة قد تكون حلًا للمشكلات العميقة التي تعصف بروح الإنسان، في الحياة المادية التي باتت مسيطرة على العصر، مشيرًا إلى أن البوح "الاعتراف" قد يكون بديلا للانتحار، حيث يتكرر لفظ البوح "الاعتراف" كثيرًا داخل جنبات الرواية، فعدم البوح هو أساس كل المشكلات النفسية التي يعاني منها الإنسان، فهو مهمة ليست بسهلة،  وكي يتم يحتاج إلى درجة عالية من الأمان نظرا لخطورته؛ لأنه قد يهدد وجود الإنسان المعنوي والمادي معا، وسط عالم تحكمه المادة المصلحة.

هذا الأمر الذي يجعلنا نعود إلى سبب نشأة أدب الاعتراف، حيث يقول الدكتور جابر عصفور إن فكرة الاعترافات مترسخة في الديانة المسيحية، وترتبط بالتطهر الروحي كوسيلة لراحة الضمير، ومارسه الأوربيون بصراحة شديدة" وانتشر مع كتاب اعترافات للقديس أوغسطين، ونلحظ هنا أدب الأدب اعتراف وسيلة لإراحة الضمير وهو الأمر الذي يريد الوصول إلية بطل رواية حافة الكوثر، ببوحه مع صديقه، متخذان شكل مذنب يعترف لكاهن ولكن عبر آلية جديدة وهي الكتابة عبر الإنترنت.

فهذا الأمر يشير إلى انتماء " حافة الكوثر" إلى أدب الاعتراف أو البوح، وذلك عن طريق الحيلة التي لجأ إليها المبدع؛ كي يكون ذلك البوح متسقا مع الشكل العام السردي للنص دون إشعار القارئ بأي شذوذ، حيث الحديث بين بطل الرواية حسين جاد، وصديقه المغترب الطاهر يعقوب، الذي يستقبل بوحه عبر موقع التواصل الاجتماعي "الفيس بوك".

 كما أن مؤلف النص التزم بطريقة غير معتادة في السرد العربي، التي هي أقرب في منهجها إلى السرد في أدب الاعتراف، الأمر الذي يرجح أن تكون الرواية اعترافية، حيث اختار "عطا" السرد غير الخطي الذي لا يقوم على الترتيب المتدرج لوقوع الأحداث، من بداية ووسط فيه عقدة ونهاية بها الحل، فهو لا يهدف إلى إيصال قارئه إلى قصة ذات حبكة درامية – إن جاز التعبير- بقدر بحثه عن  إيصال البوح والتعبير عن المشاعر الداخلية للبطل عما يدور من أحداث في الخارج، وانعكاس ذلك عليه في الداخل.

وهذا النوع السردي يبعد بشكل ما نص حافة الكوثر عن كونه رواية سيرية، فالرواية السيرية هي حكي استعادي نثري يتسم بالتماسك والتسلسل في سرد الأحداث، يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته بصفة  خاص، ويشترط فيه أن يصرح الكاتب بأسلوب مباشر أو غير مباشر بأن ما يكتبه سيرة ذاتية". حيث افتقد النص لشرطين هما الأحداث المتماسكة المتسلسلة، كما أن الكاتب لم يصرح بأنه يكتب سيرة ذاتية.

ونلاحظ أن النمط السردي الذي اختاره "علي عطا" قد نجح " في تسليط الضوء على مشاعر وحياة بطل الرواية، بكل جرأة في تفاصيل طفولته، حتى مرحلة الكبر، في جو اعترافي آسر؛ لكن ما يقف حائلا بيننا وبين القول باعترافية " حافة الكوثر" رغم جرأتها غير المعهودة في الأدب العربي، في الكشف عن أدق التفاصيل الحياتية، التي جاءت على لسان السارد بضمير المتكلم، أنه صاحبها ذكر صراحة على غلافها أنها تنتمي إلى عالم الرواية، بالإضافة أن اسم البطل هو "حسين جاد" وليس "علي عطا"،  وإن كانت هناك نقاط تماس بين المؤلف وبطل الرواية، وهذا الأمر مألوف في أدبنا الروائي العربي، خاصة في الروايات الأولى لمبدعيها، التي عادة ما يتماس بطلها مع مؤلف الرواية، فعلى سبيل المثال لم يكن محسن في رواية عودة الروح لتوفيق الحكيم سوى توفيق الحكيم نفسه، وحامد في رواية زينب لهيكل إلا محمد حسنين هيكل نفسه.

الأمر الذي يؤكد أن علي عطا اختار بوعي شديد هذا النوع السردي لروايته، للإيهام بأن ما يكتبه هو نوع من أدب البوح، وكي يكشف عن التفاصيل الداخلية لبطلها، مرتبا الأحداث فيها بناء على الزمن النفسي، وما يشعر به "حسين" لا الزمن السردي العادي الذي يلتزمه معظم كتاب الرواية.

ولعل السبب الأهم لنفي انتماء حافة الكوثر إلى أدب الاعتراف، رغم تماسها معه في كثير من النقاط الشكلية، كما ذكرنا من قبل، أنه لا يوجد في الوطن العربي أدب اعتراف بمعناه الحقيقي حتى الآن، وإن ظهرت بوادر له مع الأديب المغربي محمد شكري الذي قدم روايته "الخبز الحافي" والشطار" تفاصيل مثيرة وجريئة لماضيه المظلم ومغامراته الكثيرة في الأماكن الموبوءة في صراحة متناهية، بينما هو في الغرب يعد من أرقى الفنون الكتابية إن توفرت فيه الشروط ، لعوامل عدة في مقدمتها العامل الديني كما ذكرنا في المسيحية، بينما في الدين الإسلامي الأمر مختلف، وهو ما يظهر في قصة ماعز بن مالك الشهيرة، الذي اعترف فيها للنبي صلى عليه وسلم بذنبه، فكان يحثه النبي  ستر نفسه قائلا له "‏وَيْحَكَ! ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ".

 والعامل الثاني هو النظرة المجتمعية غير المحببة لمن يكشفون عن تفاصيل غير معتادة في حياتهم، تصل إلى معايرة أهل كاتبها بها، وتصبح وصمة عار في جبينهم، بسبب التلاحم الاجتماعي الموجود في الوطن العربي، عكس الحياة الفردية بالغرب. وخير دليل على ذلك ما لاقاه الأديب اللبناني سهيل إدريس حين نشر مذكراته من خلال جو اعترافي به تفاصيل حساسة عن علاقته بوالده وعلاقاته النسائية المتعددة ومغامراته حينما كان في شرخ الشباب، وكذلك ما عاناه محمد شكري من نقد جارج بسبب عمليه الروائيين، والأمثلة كثيرة على ذلك.

ومن الملاحظ أن السرد غير الخطي في رواية "حافة الكوثر" قد ساعد في سرعة التنقل في الأحداث، دون إطالة تدفع القارئ للملل، وجاء الوصف بالرواية خادمًا للسرد، وكاشفا عن لقطات إنسانية مرهفة مثل مشهد وصف القطة وصغارها تحت الشجرة، كما نتج عن السرد غير الخطي كثرة الشخصيات بالرواية التي تجاوز عددها 160 شخصية، أي بمعدل اسم كل صفحة، وإن ظل حسين هو البطل الأوحد في الرواية الذي تنكشف الأحداث لنا من خلاله.

وحوت " حافة الكوثر" على 3 تراجم أولها للشيخ " الخلواتي" والثانية للمعادي، والثالثة للممثل حسين صدقي، وجميعا كان هناك رابط بينها وبين الكوثر، المكان الذي تدور من حوله أحداث الرواية، فالخلواتي ذلك الشيخ العابد الناسك، وهو ما يتمنى بطل الرواية أن يكونه، والمعادي هو ذلك المكان الذي تقع فيه الكوثر، وحسين صدقي الذي تربطه صله ببناء ذلك المكان، الذي تحول إلى وطن لسكانه يعادل المنفى الذي اختاره صديقه الطاهر يعقوب وطنا بديلا له، والاثنان يعنيان من المشكلة نفسها؛ الاغتراب النفسي والاجتماعي. وقد ساعد " الحلم" في الرواية على إبراز هذا الاغتراب، واضطراب العالم من حول البطل.

ويتجلى في الرواية أن الاكتئاب هو المحرك الرئيس للأحداث بها، فهو الذي يدفع البطل إلى الكتابة أصلا رغبة أن يكون البوح هو البديل للانتحار، فكما يقول صديقه الطاهر يعقوب لبطل الرواية أثناء مراسلاتهما، أن من نجوا بالكتابة عددهم بالتأكيد يفوق من لاقوا ذلك المصير المؤسف. ويحشد البطل أمثلة لأشهر من عانوا من الاكتئاب مثل صلاح جاهين، وسعاد حسني التي يرجح "حسين جاد" أنها انتحرت بفعل الاكتئاب، موضحا أن الاكتئاب بات خطرا يهدد الإنسانية كلها الذي يقدر بنسبة 10% من أي مجتمع بشري.

ونجح على عطا في نقل صورة واضحة لما يدور في الكوثر من تفاصيل، بدءا من وصفه بشكله المادي، وتقسيم عنابره، وصولا إلى  الكشف عن كيفية حياة أناسه به، وما الأطر والقوانين التي يخضعون لها، بالإضافة إلى حكاياتهم التي مثلت عالما من الطرفة والفكاهة داخل الرواية، وتكاد تكون منعدمة الروايات العربية التي تتناول الاكتئاب بهذا الشكل وتغوص في أعماقه، محاولة الوصل إلى علاج للهروب من براثنه، وهو الأمر الذي يحسب لمبدع الرواية علي عطا،  تلك الرواية التي تتشابه في موضوعها العام "الاكتئاب" مع رواية "لا شيء" للكاتبة الدنماركية "جين تيلر" التي تتحدث عن طفل بعمر 13 عاما يعاني من تلك المشكلة.

كما كشفت "حافة الكوثر" عن الكثير من معالم البطل، سواء من عمله في الصحافة، واقترابه من المثقفين، ومتابعة الظروف السياسية التي تمر بها البلد، وتعقيبه عليها، وإبداء الرأي فيها بكل صراحة وجرأة، " لم أوقع على استمارة تمرد، كانت حركة مفقوسة، كانوا يوزعون استماراتهم التي تطالب برحيل رئيس الجمهورية، في أماكن تجمع الناس بحرية"، بالإضافة إلى إبراز العديد من القضايا الإنسانية التي أثيرت في الوسط الأدبي مثل قضية الفنان السوداني محمد بهنس، وذكر أسماء الكثير من الزعماء العرب والفنانين والأدباء  مثل ياسر عرفات وسعاد حسني، ومحمود ياسين والروائي إبراهيم أصلان كلها أمور أسهمت في الإيهام بواقعية الرواية.

وتميزت لغة الرواية بالشاعرية، والاقتباسات الشعرية، ومن المؤكد أن شاعرية الكاتب وإصداره لثلاثة دواوين شعرية قد أسهم في ظهور لغة الرواية بهذا الشكل. كما تميزت لغة الرواية بالتكثيف الشديد، حتى يظن القارئ أن كل جزء من الرواية يصلح أن يكون قصة قصيرة متماسكة البينان.
-------------------------
بقلم: د. عبدالكريم الحجراوي